الخصخصة في الواقع المعاصر: دراسة تحليلية في المفهوم، التطور، والمنظور الإسلامي
المقدمة
شهدت العقود الأخيرة تحولاً جوهرياً في النماذج الاقتصادية العالمية، حيث برزت الخصخصة كاستراتيجية رئيسية لإعادة هيكلة الاقتصادات الوطنية. يُعدُّ هذا المفهوم – رغم حداثة مصطلحه في اللغة العربية – أحد أبرز مظاهر الانتقال من النموذج التدخلي إلى اقتصاد السوق. وتهدف هذه الدراسة إلى تحليل الخصخصة بوصفها ظاهرة معاصرة، من خلال تتبع جذورها التاريخية واستعراض دوافعها وأساليبها، مع تقويمها من منظور الاقتصاد الإسلامي؛ خاصةً مع تسليط الضوء على التحديات التي تواجهها الدول النامية، ولا سيما تلك ذات الأغلبية المسلمة.
الفصل الأول: الإطار المفاهيمي للخصخصة
تناقش الدراسة أولاً الجوانب اللغوية والمصطلحية لمفهوم الخصخصة. فقد أثار ترجمة مصطلح "Privatization" إلى العربية جدلاً لغوياً، إذ يُستخدم لفظ "الخصخصة" على الرغم من عدم وجود سند تقليدي له في المعاجم الكلاسيكية. ويفضّل بعض الباحثين استخدام مصطلحات مثل "التخصيص" أو "التخصيصية" ارتباطاً بجذر "خصص" كما ورد في كتب مثل "لسان العرب" لابن منظور، إلا أن انتشار مصطلح "الخصخصة" جعله مقبولاً في الأدبيات الاقتصادية العربية وفقاً لقاعدة "لا مشاحة في الاصطلاح" كما أفاد الماوردي في "الحاوي الكبير". وتختلف تعريفات الخصخصة؛ ففي المفهوم الواسع يُنظر إليها كسياسة شاملة لإعادة هيكلة الاقتصاد عبر تعزيز دور آليات السوق، بينما يُعرف المفهوم الضيق بتحويل ملكية أو إدارة المشروعات العامة إلى القطاع الخاص، كما ورد في النشرة الاقتصادية لبنك مصر عام 1991.
على الصعيد التاريخي، يمكن تتبع تحول النماذج الاقتصادية من التأميم إلى الخصخصة. ففي القرن العشرين، برزت الدولة التدخلية بعد الكساد العظيم عام 1929 والحرب العالمية الثانية، حيث تولّت الحكومات قيادة التنمية عبر التخطيط المركزي وتأميم الموارد، مدفوعةً بأيديولوجيات اشتراكية وطنية كما أوضح الدكتور صديق عفيفي في عام 1991. وفي الربع الأخير من القرن نفسه، بدأ نموذج الدولة المنتجة بالتراجع نتيجة لعجز الموازنات وتراكم الديون وفشل المشروعات العامة في تحقيق الكفاءة، إلى جانب ضغوط المؤسسات المالية الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وفي هذا السياق، برزت بريطانيا بقيادة مارجريت تاتشر في خصخصة شركات النفط والاتصالات، وتبع ذلك موجات مماثلة في أوروبا الشرقية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي (Perotti, 1995).
الفصل الثاني: دوافع الخصخصة وأهدافها وأساليبها
تتنوع دوافع الخصخصة بين دوافع اقتصادية وسياسية واجتماعية. فمن الناحية الاقتصادية، تُستخدم الخصخصة كوسيلة لرفع الكفاءة الإنتاجية عبر آليات السوق وتخفيف العبء المالي عن الحكومات، كما أشار الدكتور محمد صالح الحناوي عام 1995. ومن الناحية السياسية والأيديولوجية، يرى بعض الباحثين أن الخصخصة تُعمم النموذج الرأسمالي في ظل العولمة وتوسّع قاعدة الملكية كبديل عن الديمقراطية الاجتماعية، وفقاً لآراء شوقي دنيا (1999) وتشارلز وولف (1996). أما من الناحية الاجتماعية، فتساهم الخصخصة في مواجهة البطالة من خلال تشجيع الاستثمار الخاص، كما أفاد بنك الإسكندرية في تقريره لعام 1997.
تختلف أساليب تطبيق الخصخصة؛ ففي بعض الحالات يتم تحويل ملكية المشروعات العامة إلى القطاع الخاص من خلال البيع المباشر سواء عبر البورصة أو المزادات العلنية، وفي حالات أخرى يتم اتباع نموذج التمليك للعاملين كما هو الحال في تجربة مصر ببيع أسهم لموظفي القطاع العام (د. منير هندي، 1995). كما تُستخدم أساليب خصخصة الإدارة من خلال عقود (BOT) التي تعتمد على البناء والتشغيل والتحويل في مشاريع البنية التحتية أو من خلال التأجير التمويلي مع احتفاظ الدولة بملكية الأصول.
الفصل الثالث: الخصخصة في الميزان الإسلامي
يتناول هذا الفصل تقييم الخصخصة من منظور الاقتصاد الإسلامي، حيث يرى الفقه الإسلامي أن دور الدولة الأساسي يتمثل في "رعاية المصالح العامة"، من خلال توفير الخدمات الأساسية مثل الأمن والصحة والتعليم وتحقيق التوازن الاجتماعي باستخدام آليات مثل الزكاة والخراج كما جاء في "السياسة الشرعية" لابن تيمية. كما يؤكد المنظور الإسلامي على ضرورة الإشراف على الموارد العامة مثل المعادن والمياه دون تملكها، وهو ما تناولته مؤلفات مثل "بدائع الصنائع" للكاساني.
وتواجه الخصخصة من منظور إسلامي تحديات عدة، منها خطر سيطرة الاحتكارات الأجنبية على القطاعات الاستراتيجية وتفاقم البطالة نتيجة تسريح العمالة في المشروعات المخصخصة، كما أشار الدكتور كريمة كريم عام 1997. كما تُطرح تساؤلات حول حدود خصخصة الممتلكات العامة؛ إذ يُعتبر بيع الممتلكات الجماعية مثل الأنهار والطرق محرماً نظراً لاتصاله بالمصلحة الوطنية، بينما يمكن تأجير أو استثمار ممتلكات بيت المال بشرط مراعاة المصلحة العامة وفقاً للمذهب الإسلامي.
الخلاصة والتوصيات
خلصت الدراسة إلى أن الخصخصة قد أثبتت نجاحاً نسبياً في الدول المتقدمة، بينما تواجه الدول النامية – وخاصة تلك ذات الأغلبية المسلمة – تحديات عدة تتمثل في ضعف الإطار التشريعي، وانتشار الفساد، وعدم الاهتمام بالبعد الاجتماعي للإصلاح الاقتصادي. ومن المنظور الإسلامي، تُقبل الخصخصة جزئياً بشرط ألا تفقد الأمة سيطرتها على الموارد الاستراتيجية، وأن تصاحبها آليات لضمان العدالة التوزيعية، وأن تكون خاضعة لرقابة شرعية صارمة تحول دون الاستغلال. توصي الدراسة بضرورة تعزيز الأطر القانونية والرقابية في الدول النامية وتطوير سياسات تدمج الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والشرعية لتحقيق إصلاح اقتصادي شامل ومتوازن.
قائمة المراجع
ابن تيمية، أحمد. السياسة الشرعية. القاهرة: المكتبة السلفية، 1970.
بنك مصر. النشرة الاقتصادية, العدد 2، السنة 43، 1991.
الحناوي، محمد صالح. الخصخصة بين النظرية والتطبيق. الإسكندرية: الدار الجامعية، 1995.
دنيا، شوقي. الإسلام والتنمية الاقتصادية. القاهرة: دار الفكر العربي، 1979.
Perotti, Enrico. “Credible Privatization.” The American Economic Review, vol. 85, no. 4, 1995, pp. 847–859.
وولف، تشارلز. السوق والحكومات. ترجمة علي حسين حجاج. عمان: دار النشر، 1996.
الماوردي، علي بن محمد. الحاوي الكبير. دار الكتب العلمية، 1999.
ابن قدامة. المغني. [دار النشر غير متوفر].
الكاساني. بدائع الصنائع. [دار النشر غير متوفر].
الزحيلي، وهبة. الفقه الإسلامي وأدلته. دار الفكر، 2004.
القرضاوي، يوسف. فقه الأقليات المسلمة. مكتبة وهبة، 2001.
العلواني، طه جابر. أصول الفقه الإسلامي. المعهد العالمي للفكر الإسلامي، 2010.
No comments:
Post a Comment